
أقل ما يمكن أن يوصف به الوضع السياسي للحكم في السودان منذ إطاحة الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي بشركائه السياسيين في (قحط) في 25 أكتوبر 2021م وقد ورثا تركة الحكم الإنقاذي التي استمرت ثلاثين عاماً أنه (الشلل) إن لم يكن أسوأ..
فلكم أن تتخيّلوا وتتصوروا سادتي أن الفريق أول عبد الفتاح البرهان لم يشكّل حكومة تنفيذية تتألف من (رئيس وزراء ووزراء) منذ ذلك التاريخ.. بحساب العرب البسيط فإن الفترة التي ظلت فيها البلاد دون حكومة هي ثلاث سنوات ونصف وإذا أردنا أن نكون (منصفين) فإن هذه الفترة يخصم منها سنة واحدة استفاقت فيها الدولة من (المفاجأة) وتحولت فيها العاصمة لبورتسودان التي وصلها البرهان في أغسطس 2023م..
بعدها باشرت السلطة بمجلسها السيادي ووزرائها (المكلّفين) مهامها في إدارة شؤون الحكم في مجالاتها السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والاجتماعية والصحية وغيرها
لست من المتخصصين في القانون الدستوري ولكن ما يجمع عليه حتى (العوام) من المراقبين لتطورات الأمور في السودان أن ما يعرف (بالوثيقة الدستورية) التي هي مرجعية الحكم خلال فترة ما بعد الإنقاذ لم يعد لها وجود بغياب طرفها الثاني..
وهي إن جاز التعبير والتشبيه ليست (كالصلاة) يمكن أن يجبر كل ما يعتريها من (زيادة ونقصان) بسجود السهو وبالتالي لا تبطل أبداً بذلك..
وهذا إشارة لتعديلات عديدة لاحقة تلت إجراءات 25 أكتوبر التصحيحية بحذف مواد وتعطيل أخرى بما في ذلك التعديل الأخير الذي تم في 23 فبراير 2025م..
إذن التعديلات التي تمت لا تمنح الوثيقة (مشروعية) ولن تجعلها مرجعية وهذه مشكلة دستورية وقع فيها رئيس مجلس السيادة الذي يبدو أنه ليس لديه (مطبخ) يعد له (الوجبات تيك آوي) بعد أن يعكف على دراسة الأمور من جميع الجوانب الدستورية والقانونية والسياسية والاقتصادية والدبلوماسية وغيرها ويمده بالقرارات الصحيحة السليمة الموقوتة وهذه الأخيرة (من الأهمية بمكان)
إذن ما هو المخرج؟
الإجابة في غاية البساطة حيث كان أمام الفريق البرهان خياران لا ثالث لهما بعد أن حطت طائرته بمطار بورتسودان أغسطس 2023م.. الأول هو الاستناد على حيثيات الحرب التي نشبت وإعلان حالة الطوارئ في كل السودان وإعلان حكومة (حرب) بدون رئيس وزراء وبعدد قليل من الوزراء ينتهي أجلها بنهاية الحرب وإكمال الجيش وحلفه مهام التحرير وحسم التمرد والقضاء عليه..
وهذا الخيار يجد المقبولية والسند من معظم السودانيين ولكم أن تشاهدوا استقبالات البرهان حيثما حطت طائرته ما يدل على (الإجماع النسبي) الذي يمكن الاستناد عليه للقيام بهذه الخطوة.. هذه كان يمكنها إسكات أصوات كل الذين يتحدثون عن اللاشرعية بعد أن صاروا خارج دائرة السلطة.. فلا سياسة ولا مشروع سياسي والبلاد تمتحن وتنتقص من أطرافها في حرب تكاد تعصف بوجودها بالكلية..
الثاني وهذا لم يعد ممكناً الآن وهو توقيع وثيقة دستورية جديدة مع القوى الموقعّة على اتفاق سلام جوبا والقوى المنشقة عن قحط وهي الكتلة الديمقراطية (انتهت صلاحية الخيار في 15 أبريل 2013م).. فلا يمكن خلق مشروعية سياسية بأثر رجعي لتبرير وجود السلطة السيادية والتنفيذية التي ظلت تدير أمر الدولة منذ الإجراءات التصحيحية 2021م..
حالياً نحن في خانة هذا (الشلل) فلا تعويل على الجيش وحالة الحرب والموقف الماثل للقفز فوق كل ركام السياسة والسياسيين والمضي قدماً بالبلاد نحو قبضة شبه كاملة للجيش بسبب حالة الحرب تنتهي بانتهائها.. ولا هو تأسيس لسلطة مستندة على مرجعية دستورية جديدة تتخطى قحط ومتشظياتها وقد ثبت تورطهم في دعم المليشيا المتمردة وتبرير جرائمها والدفاع عنها ومساواتها بالجيش..
إذن نحن لا نزال في محطة الوثيقة الدستورية 2019م المعدّلة أكثر من مرة ومع ذلك فإن (التردد والبطء) هما السائدان فلا رئيس وزراء تم تعيينه ولا وزراء (حقيقيين) غير (مكلفين) تمت تسميتهم.. بل ذهب البعض إلى أن بعض القرارات التي اتخذها البرهان مؤقتاً فيها خرق للوثيقة بتعديلها الأخير لتستمر (حجوة أم ضبيبينة) هذه
السيد القائد العام للقوات المسلحة رئيس مجلس السيادة الانتقالي
لعل أهم مطلوبات السودانيين وهم يتعافون تدريجياً من آثار الحرب رؤية حكومة قوية أمينة قادرة على إدارة شؤون حياتهم والوفاء بمتطلبات عودتهم وتقديم الخدمات الأساسية وإعادة الإعمار.. عدم وجود هذه الحكومة مصيبة كبرى وفادحة لتظل ذات الألسن التي تعرف ولا تنكر تقدح في شرعية السلطة السيادية والسياسية..
لتستند لذات الوثيقة الدستورية التي (قدت) من قبل أو من دبر لا يهم مستعيناً بالله وبعزيمتك على القتال التي لم تلن لتشكّل هذه الحكومة اليوم قبل الغد والآن قبل العصر..
اجعل لك مطبخاً من أصحاب الرأي والفكر والاستنارة يعينوك على أدواء السياسة (ودهاء السياسيين)..
القوات المسلحة وحلفها الميمون تحت قيادتك لم تقصّر في واجبها القتالي وخلقت المعجزات وحققت الانتصارات استعانة بالله واستقواء بهذا الشعب الصابر الصامد..
هذه الانتصارات الساحقة للجيش لن تغسل (وحل السياسة) مطلقاً وستقفز في مقبل الأيام الأسئلة الصعبة والمتكررة ليستمر الجدل البيزنطي (أهي الدجاجة أم البيضة أولاً؟).
اللواء الركن (م) أسامة محمد أحمد عبد السلام