مقالات الرأياخبار

الخرطوم تستعيد نيلها وارادتها ؟

وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي

 

تُعد معركة تحرير الخرطوم من مليشيا الدعم السريع نقطة تحول مفصلية في المشهد السوداني، ليس فقط من منظور استعادة السيطرة على العاصمة ، بل أيضًا من زاوية إعادة صياغة التوازنات العسكرية والسياسية في البلاد . فمنذ اندلاع الحرب في أبريل 2023 ، تحولت الخرطوم إلى ساحة مواجهة بين الجيش السوداني ومليشيا الدعم السريع ، التي سعت لإختطاف الدولة ، مستفيدةً من دعم خارجي وغطاء داخلي من بعض الأحزاب .

 

 

في هذا المقال نحاول نستعرض الشواهد و الدلالات لتحرير الخرطوم والذي ربما يكتمل قبل وصول المقال إليكم ، علي اعتبار أن العسكريين لا يكشفون عن خططتهم لكن ما هو متاح من معلومات لم يتبقى إلا القليل .

 

 

يُعيد المشهد الراهن في الخرطوم إلى الأذهان لحظة تاريخية مفصلية شهدتها العاصمة في 26 يناير 1885، عندما اقتحم أنصار الثورة المهدية بقيادة الأمير ود النجومي المدينة ، وأسقطوا الحكم التركي-المصري، معلنين بداية مرحلة جديدة في تاريخ السودان .

 

 

اليوم وبعد أكثر من قرن يشهد السودان معركة أخرى لتحرير الخرطوم ، هذه المرة من قبضة مليشيا الدعم السريع ، في معركة تحمل أبعادًا سياسية وعسكرية وأمنية مشابهة من حيث السياق الوطني والنتائج المتوقعة على مستقبل البلاد . حيث يخوض الجيش معركة وجودية ضد قوة حاولت تغيير مسار الدولة بالقوة ، وفرض مشروع إقليمي لتفكيك البلاد .

 

 

نجح الجيش السوداني مدعومًا بالقوات النظامية الأخرى والمستنفرين ، في فرض طوق عسكري محكم على العاصمة ، في خطة اطلق عليها قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة ب “شرك ام زيردو “متبعًا استراتيجية التطويق التدريجي و استنزاف متدرج أدت إلى تقليص نفوذ المليشيا في الخرطوم . وقد بدأ الزحف من ولاية الجزيرة التي استعادها الجيش مؤخرًا ، ليصل إلى محيط العاصمة عبر المحاور الجنوبية والشرقية ، متخذًا من شرق النيل نقطة انطلاق رئيسية في عمليات التحرير .

 

 

التطورات الأخيرة كشفت عن تقهقر واضح لمليشيا الدعم السريع ، إذ سجلت انسحابات كبيرة لعناصرها لا سيما من المرتزقة الأجانب الذين بدأوا بمغادرة مواقع القتال . كما أن التقارير الميدانية تشير إلى انقسامات داخلية وتصدعات في بنيتها التنظيمية ، انعكست على أدائها العسكري وفعاليتها القتالية ، مما سهل عمليات الاختراق والسيطرة من قبل القوات المسلحة .

استعادة الجيش للخرطوم بحري شكّل نقطة تحول رئيسية في مجريات العمليات العسكرية ، نظرًا لموقعها الاستراتيجي ، حيث تعتبر البوابة الشمالية للعاصمة ، وتضم بنى تحتية حيوية ، أبرزها مصفاة الجيلي التي كانت تحت سيطرة المليشيا منذ أشهر . كما أن تأمين بحري يعني الحد من قدرة التمرد على تنفيذ عمليات إمداد أو إعادة تموضع ، وهو ما زاد من عزلتها داخل الخرطوم ودفعها نحو الانهيار الكامل .

 

 

بعد استعادة بحري باتت القوات المسلحة تقترب من تطويق المليشيا داخل الأحياء المتبقية في وسط وجنوب الخرطوم ، حيث تشكل جسور سوبا والمك نمر والمنشية نقاط اشتباك حاسمة في المعركة . وفي ظل هذا التطويق، يصبح استكمال تحرير العاصمة مسألة وقت خاصة مع تحركات الجيش في أحياء شرق الخرطوم ، بما في ذلك الرياض وامتداد ناصر والمعمورة مما يعزز الضغط على المليشيا .

 

 

لا يمكن النظر إلى معركة تحرير الخرطوم بمعزل عن التداعيات الإقليمية والدولية ، حيث أن انهيار مليشيا الدعم السريع سيشكل ضربة لمحاولات بعض القوى الإقليمية إعادة تشكيل المشهد السوداني عبر دعم الفصائل المسلحة ، ما يحدث هذه الايام من تحركات لعبد العزيز الحلو في جنوب كردفان يشير إلى أن هناك اتجاهات للمحافظة علي وضع الحرب لأشغال الجيش السوداني .

 

حيث أنهم يدركون أن نجاح الجيش في استعادة الخرطوم سيعيد رسم خارطة النفوذ في المنطقة ، كما أنه سيعزز من فرص استقرار السودان على المدى الطويل ، بجانب تهيئة المناخ السياسي للقوي الوطنية .

لذلك تحرير الخرطوم لا يعني بالضرورة نهاية الأزمة السودانية ، بل يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التحديات، أبرزها إعادة بناء مؤسسات الدولة ، وضمان الأمن والاستقرار ، وتوحيد الجبهة الداخلية في مواجهة التدخلات الخارجية .

 

 

يحدثنا التاريخ عن عواصم كثيرة تم تحريرها بجيشها الوطني واستعادة سيادة الدولة . حيث شكل ذلك مراحل مفصلية في تاريخ الشعوب ، مثال” برلين والكويت وكابل” تظهر هذه التجارب أن تحرير العواصم ليس مجرد حدث عسكري بل نقطة تحول في تشكيل المشهد السياسي والاقتصادي والأمني. في السودان ، ينظر السودانيين لتحرير الخرطوم سيعيد رسم موازين القوى داخليًا ، ويؤثر على العلاقات الخارجية ، خصوصًا في ظل التنافس الإقليمي والدولي على النفوذ في البلاد.

 

 

لذلك علي قيادة البلاد أن تمضي قدما في استكمال التحرير باستعادة الأمن وتحقيق السلام وحماية السيادة الوطنية وتقديم مشروع وطني يجمع السودانين ، مع اسناد مهام المصالحات الاجتماعية لمؤسسات الدولة والمجتمع للوصول الي بلد مستقر .

عليه فإن تحرير الخرطوم يعني ان يسترد النيل عافيته وتسرد البلاد ارادتها ، هذا ليس لأنها العاصمة فحسب بل لأنها الوطن ، الذي اجهض أبناؤه محاولات فرض المشروع الأجنبي بقوة السلاح . لذلك هذه اللحظة التاريخية تضع السودان أمام مسؤولية كبرى ، تتطلب تثبيت الأمن وتحقيق السلام بجانب مرحلة انتقالية يقودها الجيش ، بوصفه المؤسسة الوطنية القادرة على حماية وحدة البلاد ومنع الفوضى .

 

 

فإن الاستقرار الدائم لا يتحقق بمجرد إنهاء التهديدات الأمنية، بل يحتاج إلى تأسيس أرضية سياسية راسخة و صلبة ، وهو ما يستدعي منح الأحزاب والقوى الوطنية أجل طويل و فرصة واسعة للوصول إلى رؤية موحدة تُقدم مصلحة السودان على أي انتماءات ضيقة.

 

 

لذلك يجب عدم استعجال الانتخابات إلى حين نضوج توافق وطني حقيقي بعيدا عن الصراعات الصفرية لتجنيب البلاد سيناريوهات الاضطراب والفوضى من جديد ، بذلك نضمن تحول ديمقراطية قائم علي الوعي، نضمن به الاستقرار والامن وتعزيز السيادة الوطنية . هذا هو وجه الحقيقة .
دمتم بخير وعافية .
الخميس 6 فبراير 2025 م. Shglawi55@gmail.com

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى