السودان: العيكورة يكتب: سَحُور حَبُوبتي .. وحكاية (ود رحمة)

0

في زمن لم تكُن (الحبوبة) هي سَحَر وسَمَر وسَوسَن أيام كانت (الحبوبة) هي سِت النّفَر وسِتْ الجِيل وبِتْ المِنى، كان السَحُور غير والطُقُوس غير التي يراها أحفاد اليوم. فكانت حبوباتنا يحرصِن على شراء (عِدّة) رمضان بشهور وكُنْ على شراء (تُرمُسة) شاي السحُور أحرص، أذكُر أن ليس لها مقبض ولا مُحزّقة ولا دائرية بل كانت أسْطوانية الشكل بقُطُر لا يتجاوز البوصتين طويلة نوعاً ما ولها غطاء من الفلين وغطاء ألومنيوم من الخارج وعندما يتم غسلها فكُنّ يحرصن كُلّ الحرص أن لا يضيع الغطاء وأكاد أجزم أن لا شيئ كان يُفقد حبُوباتِنا صوابِهِن كإفتقادهن لتلك المُقتنيات وإذا دخلت على حبوبتك و(كانت رايحا ليها) غُطاية كُورة أو حَلّة أو إنِكْسرت لها كُباية (فشيل شيلتك) لا تسألها ولا تُلقي عليها السلام والأفضل لك أن (تتخارج) وتعمل فيها أنك أتيت لتشرب من الزير وتنسحب بسلام، الحبوبة أطلُب عُيونها ولا تُكسِر لها صَحَنْ صِينِي عندها فلن يفِش غبينتها الكُنش والا المُفُراكة وسيظل هذا الجُرُم مَحفُوراً في ذاكرتها ولن تنساهُ لك وسيُنشْر إعلامياً ولمدة لا تقل عن عام هذا لو سامحتك.
ومن المعرُوف لنا ونحن صغار أن (الحبوبة) بعد إنتهاء الفطُور تتجمّع عندها الأواني بعد الإفطار للغسيل وفي الغالب بعد شراب القهْوة (بتأخد ليها غمّدة) حتى تستجمع قُواها قُبيل العِشاء لغسيلها وإعداد وجبة العَشَاء البارد وبارد هذه يُقصد بها (المفاريك) بأنواعها فلم يكونوا ميّالين لطبائخ (الدِمَع). (نفسي) أعرف من أين أتت نسائنا بكلمة (دمّعة) هذه يُطلقنها على سَبكّة اللّحم أو الدُجاج بلا خُضار! المُهِم تَعِد (حبوبتنا) سحورها مع إعداد العشاء وله أمكنة مُحدّدة (بالإحداثيات) يُوضع فيها فمثلاً إذا طلبت منك أن تضع حلّة الرُز بجُوار (كُراع العنقريب) وأبعدتها قليلاً عمّا تريد (فيومك أسود) لن تترك نَعْت فى الإهمال والهبالة و إلاّ وتنعتك به. السَحُور كان مائدة كاملة تكفي لعشرة أشخاص ولكنهُ لا يُؤكل ويبقى لنا نحنُ الصغِار لصباح اليوم التالي (كُلّ هذا؟) يا حبوبة (ديجانقو) (طيّب) البارح ألم تقولي لنا أنّ هذا سحُور الكُبار ولا يجوزُ لنا! (خُلعة) صيام وطُقُوس ليس إلّا.
من الطرائف أن إحدى حبوباتنا كانت من ذوات المراسم الصارمة في إعداد السحُورِ وتضعه بجوار (العنقريب) بعد أن تتأكد بنفسها من خُروج (الكديسة) خارج الغُرفة وكانت تنام معها حفيدتها ويبدو أن الحبُوبة إستيقظت مُتأخرة ذات يومٍ بعد الأذان فأيقظت حفيدتها لتتأكد من الساعة فأكدت لحبوبتها الخبر الصاعق (الواطة صِبحَتْ) فإنتابت الحاجة حالة مِن (الهيستريا) والهمّهمة والجرى بلا كوابح داخل الغُرفة وفتح الشُباك وقفله وبعضاً من الردحي الخفي مِن شاكلة مخيّر الله يابتي ده كلام شنو؟ هسي طريقة موية زرقاء ساي من الزير مافي؟ وطبعاً ذلك اليوم (أعانكم الله) فستكُون الحاجة مُتوترة من الصباح ورأسها مَعْصُوب وكفّها أسفل الحنك و(غايتو) أحترس منطقة عسكرية ممنوع الإقتراب والتصوير وإستخدام الأواني سيكون كما المقذوفات و(الراجل يفتح خشمُو) وعلى الجميع الصبر حتى يُؤذن المغرب ويرتاح القائد.

في أحد أعياد الفطر في زمنٍ ما ذهبتُ لأعيّد على الخال الطيب ود حقّار (رحمه الله) في منزله بشمال (العيكورة) فقيل لي أنه ذهب لجيرانه (ناس) ود كبريت وكلمة (ناس) هذه تعوْدنا على تداوُلها نقّصدُ بها الأسرة والعشيرة والجماعة فذهبتُ للديوان وكان أول عيد يمُر على وفاة الأستاذ والمُربي الفاضل أحمد الأصيل (رحمه الله) ومن عادتنا أن يتجمّع الناس مع أهل الميت في أول عيد كنوع من المُؤاساة. كان الحديث يدُور عن رمضان وعن أيُ الأيام كان حَرّهُ غائظاً وهكذا. عمّنا محمد علي ود رحمة (عليه رحمة الله) كان رجُلاً به طُرفة ومساحة واسعة من المرح في نفسه وهو بائع خُضار (بالجِزَارة) ويميلُ إلى الدعوات في ثنايا الحديث ويضغط على بعض الحُرُوف بصوتٍ رخيم يُجبرُك أن تسْتَمِع إليه (سمح آآ عشايا) جُملة يُردِدُها أثناء البيع فتناول الحديث قائلاً: (وسأحاول نقلها كما إختزنتها الذاكرة):ـ إنتا عارف آآآ ود حقّار مرة كان عندي باقي خُدرة وشوية بَصَل ما إنباعنْ لي في الجزارة. آآها قُلت أمش أبيعن في حِلّة الفُقرا واليوم داك كان حَرّ حَرّ شديد خلاس كان يُكرّر كلمة (حَرّ حَرّ) واضعِاً السّبابة على مُنتصف جبهته مُركِزاً بصرهُ نحوَ الأرض. ثم تابع وأنا صايم آآود حقّار في الحَرّ داك أهااا لمن بقيت نُصْ الحَوّاشات وقال كَدِي الحُمار إنّزوا بيّ على أبعشرين وقال للمُوية كع كع كع حَرّم نزْلَتَ شِربتْ مَعَاهُو! العَطشْ مُو كَعْبَ آآآ ود حقّار .!! لا أذكُر أنْ أحْداً بالديوان لم يمْسح دُمُوعهُ مِنْ كثرة الإفراط في الضَحِكْ.

اللهُم أغفر لأهلنا وكبارنا الذين سبقُونا إليك اللهُم وأكرم نُزلُهم وآنس وُحشْتهم وأغسِلهُم بالماءِ والثلجِ والبَرَد وأرحمنا اللهُمّ إذا صِرنا إلى ما صاروا إليه، اللهم وتقبل منّا الصيام القيام وصالح الأعمال.
بقلم: صبري محمد علي العيكورة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.