في ذكري رحيل بروف يونس .. حينما يترجل عن صهوة الدنيا عظمائها

0

همس الحروف

الباقر عبد القيوم علي

رحم الله الشمردل بن شريك حين قال :

أَخٌ لِي لَو دَعَوتُ أَجَابَ صَوتِي
وَ كنتُ مُجيبَه أنّى دَعَانِي

فَقَد أَفنَى البُكَاءُ عَلَيهِ دَمعِي
وَ لَو أَنّي الفَقِيدُ إِذاً بَكَانِي

مَضَى لِسبِيلِهِ لَم يُعطِ ضَيماً
وَ لَم تَرهَب غَوَائِلُهُ الأَدَاني

عندما يترجل العظماء عن هذه الفانية تتآكل الأرض من أطرافها حزناً عليهم ، وتنطفئ لهم قناديل كانت مضيئة تشع بأضوائها فرحاً بهم فانكفأت على وجهها عند رحيلهم ، فأظلمت في وجوهنا الدنيا من بعدهم ، عندما يرحل العظماء لا يخلفون اليتم في بيوتهم فقط و أنما تنفطر لذهابهم قلوب الكثيرين من المحبين لهم ، لا لكونهم كانوا أصحاب يد عليا للكثيرين منهم ، و لكنهم كانوا السند الحقيقي و العمود الفقري و الركن الركين لهم من خلال قيمهم ومبادئهم التي إرتقت بها مكانتهم عند الناس إلى مصاف الملائكة ، وما هم بملائكة لانهم كانو أراوح لها أجساد يعيشون بيننا ، فأجسادهم مضت و تبقت لنا أرواحهم و أثر أنفاسهم الطاهرة ، و هكذا كان وصفهم عند الله تعالى : (بل أحياء عند ربهم يرزقون) . هذا هو ظننا في الله .. و هكذا نحسبهم و الله هو أحسن الحاسبين .

في هذه الأيام من هذا الشهر المبارك ينكأ علينا الجرح القديم و الغائر بألمه الفتاك الذي لم يندمل بعد و لم يتم برأه حتى الآن ، فيتجدد هذا الألم بهيجان ذكرى رحيل أخي بروف يونس عبد الرحمن بن إسحق عليه الف رحمه من الله تغشاه في مرقده ، أن هذا الرجل العظيم تجتمع في قلوبنا محبته الخالصة لله و في الله ، و بذكراه تنبعث فينا موجات عاتية من الحزن و الأسى الدفين مع الفرح العارم ، إذ يتشابهان شكلاً و يختلفان في المضمون كتشابه تلك الحروف العين و الغين ، و الراء و الزاء ، و الدال و الذال ، و الطاء و الظاء ، و السين و الشين و الصاد و الضاد ، و الحاء و الخاء و الجيم ، يتقاربون في الشكل برغم من إختلافهم في المضمون و المنطوق ، فكم من فرح يبكيني و كم من حزن يهزني شوقاً إليه ، و ما زلت باكياً عليه ، لإنه لم يكن رجلاً عاديا كما أكثرنا ، و كما لم يكون شخصا عابر سبيل يشبهنا ، بل أنه كان من خيرة رموز هذه الأمة عربية اللسان و إسلامية الهوية المتهدلة من المحيط إلى المحيط .

لقد رحل عن دنيتنا رجلاً كان مفتاحاً من مفاتيح الخير و باباً من أبواب العطاء و رمزاً من رموز الإنسانية و بحراً من بحور القيم النادرة ، مخلفاً من بعده حملاً ثقيلاً لمن سيحاول أن يخلفه في كرسيه إن إستطاع لذلك سبيلا ، فيا قلبي أحزن عليه و يا عيني أبكي من الدمع سخينا ، و شاركي القلب في آلامه و ظلمة الحزن الدفينا ، و أبكي ثم أبكى عسى أن يطفى الدمع ناراً للفراق و امسحي أثار الحزن فينا ، فلقد كان هذا الرجل الخلوق و النبيل منارة من منارات العطاء و مدرسة مفتوحة تنثر علومها على رؤوس الدارسين فيها ، فتعلمنا منه الكثير و المفيد في كل ضروب الحياة ، و لقد كانت رحلة حياته صاخبة بالإنجاز و العطاء بعكس رحيله شديد الصمت ، الهادي في رحلته الأبدية ، ليغيب عن مشهد هذه الحياة بكل صخبها تاركاً خلفه سيرة عطرة لم تنطوي معه في ذلك اليوم ال23 من العشر الأواخر الذي يعد من أكثر الأيام بركة في هذا الشهر الفضيل ، الذي وافق 5 /5 / 2021م ، ففي مثل هذه الأيام يجرنا ناقوس ذكراه العطرة ليبدد ظلمات نسياننا و يجتر ذواكرنا الى سيرة حياتة التي كانت عامرة بالفضيلة و الخير ، حيث مازال فكره مبثوثاً في كافة أرجاء ربوع هذا السودان المتنوع يحمل الى الناس العطاء كالبحر لا ينقص بالأخذ و لا يزيد بالمد ، ينهل منه طلابه و يشاكهم في ذلك زملائه و أصاحبه ، و ما زال إرثه متأججا يافعا يحمل ريات النهضة ويقود المسير إلى أعالي باحات المجد .

بروف يونس عبد الرحمن بن إسحق هو أحد العظماء الذين أنجبهم رحم حواء السودان في القرن العشرين، حيث وهبه الله شمائل نورانية و حباه قدرات وطاقات متميزة ارتقت به إلى أعلى قمم المجد و التضحية والعطاء فمهما حاولت تطويع الكلمات و عصرت على رؤوس حروفها ، فهي تقف عاجزة عن وصف مدلول الكلام فهي فقيرة ولن تستطع ان توفيه حقه ، لقد كان منبته في قرية كردفاتية بريفي أبو زبد تسمى (قليصة) ، قد تنقصها كثير من مقومات الحياة و ما زالت و لكنها انجبت من رحمها هذا الرجل العظيم الذي لم يطرق اليأس بابه في يوم ما وهو يحلم بأن يضع بصمته في سجل النخب العلمية و السياسية و الإجتماعية في السودان ، فضغط على نفسه و حمل عبء النجاح على ظهره حتى كان من الذين زينوا لوحة شرف كلية الطب بجامعة الخرطوم حيث برع فيها فكان من المتميزين و إستمر في رسم طريقه الوعر الذي لم يكن معبداً حتى نال الميدالية الذهبية في طب الأطفال بإيلندا ، فنبغ بعد ذلك في العمل العام و اصبح رقماً مميزاً في العمل الطوعي و العمل السياسي و الإجتماعي و لم يهدأ له بال و ما زال يشق طريقه حتى أسس كلية النهضة الجامعية التى تعتبر من أعظم ركائز العلوم الطبية و الصحية و غيرها من العلوم في بلادي و ما زالت مسيرته في التقدم على الرغم من رحيله بإصرار أسرته العظيمة في تكملة مشوار تجويد صناعة الأجيال في المنطقة بأثرها ، لقد كان رجلاً ليس كسائر الرجال ، و رمزاً ليس كتلك الرموز الباهتة ، فما تركه هذا الرجل الفذّ من سيرة حافلة ستظل نور حروفها تشع من بين دفتي كتاب حياته الذي تتقاطر من صفحاته المكتوبة بأحرف من نور كل صور العطاء اللا محدود والإبداع الذي يلامس السحب علواً .. و هذا التايخ الحافل بالإنجاز حتما ودون جدال سيضعه في المرتبة الأسمى و المكانة الأرفع التي لا يجاوره فيها إلا نفر قليل من خيرة علماء ومفكري بلادي الذين بلغوا ذرى المجد في التفرد و التميز و الإبداع في هذا العصر الحديث خلال مسيرة حياته العامرة و تاريخه الحافل بكل أنواع الخير .. الذي لم يعرف يوما ما معنى التردد أوالتراجع أو الخور و الانكسار .

اللهم إني أسألك و انت خير من سئل و خير من أجاب و خير من وعد أن ترحم عبدك يونس بن إسحق ، حيث عجزت عقولنا عن إستيعاب فراقه ، وأجعل قبره نوراً وضياء إلى يوم يبعثون ، اللهم ارحمه وعوضه عن كل ألم أصابه في حياته بـجنة عرضها السموات والأرض ، اللهم اجعله في روضة وبستان في نعيم دائم و دار خلد تحت ظل عرشك في معية الانبياء و الشهداء والصديقين و الصالحين ، و ارحم كل من سبقونا إليك من الاهل و الأصدقاء و الاحباب و سائر موتى المسلمين ، وان ترحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا ٠ و ان تحفظ و تجعل البركة في ذريته إلى يوم الدين.. يا رب العالمين .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.