يُحكى أن رجلاً باع جملاً في أحد الأسواق، وعندما همّ المشتري الجديد أن يُدخل الجمل إلى المسلخ لنحره، رفض الجمل أن يتحرك قيد أنملة، واحتار الناس، فإذا برجل ذي خبرة وحنكة يقول: احضروا صاحب الجمل الأصلي، فلماء جاءوا به، أمسك الرجل بحثال الجمل ( لجامه)، واقتاده، فإذا بالجمل يرافقه خطوةً بخطوة، فأسرع الرجال إليه بسكاكينهم لكي ينحروه، ولكن كان لصاحب الجمل رأيٌ آخر، إذ رفض نحر الجمل وقال لهم: كيف أغـدر بمن وثق بي وخطى بخطاي، فأعاد لهم نقودهم وعـاد إلى داره يتأبط جمله مُقْسِماً ألا يبيع من ائتمنه على روحه..
انتهت حكاية الرجل والجمل المخلص، ولكن حكايات الغـدر والخيانة مازالت تتكرر في اليوم مئات المرات، فما أكثر الذين يبيعون الجمل بما حمل، وما أخبث من يبيعون وطنهم بثمن بخس دراهم معدودة، دون أن يرفّ لهم جفن، وهم في الحقيقة يبيعون إنسانيتهم وأخلاقهم ويهيمون في الأرض بلا شرف أو ثقة أو كرامة أو ذمة أو وطن أو دين، وما أكثر الذين باعوا أوطانهم، فأصبحوا منبوذين أذلاء مُحتقَرين، ليس في نفوس مواطنيهم وبني جلدتهم فحسب، وإنما في عيون من اشتروا ذممهم بالمال والذهب.
فمن يبيع وطنه لا يستحق مثقال ذرة من ثقة، ومن يبيع وطنه لا يستحق إلا أن يُرمى في مزبلة التأريخ، ومن يبيع وطنه، لن يكافئه إلا أن يُشنق أمام العوام، وفي ميدانٍ عام، فلن يبيع وطنه إلا شخص فاقد المروءة، وفاقد المروءة شخصٌ منافق بلا أخلاق وبلا شرف، وامروءٌ بهذه الصفات لن يتوانَ في بيع عِرضه ابتغاءَ عَرَض الحياة الدنيا، والفوز بمرضاة من دفعوا له، وأجزم أن الخيانة هي الجريمة الوحيدة التي يُجمع الناس على رفض مرتكبها ومقته، ونبذه، وازدرائه، عطفاً على شناعة الفعل، خاصة إذا تعلق الأمر ببيع الوطن أو الشرف أو العِرض.
وقناعتي ولعلها قناعة الجميع، على أنه لا يوجد ما يبرر للمرء خيانة وطنه، ولعل مشاهد التأريخ في عصرنا الحديث، تحفل بالكثير من الحكايات والقصص، عن معارضين باعوا أوطانهم لاختلافات سياسية مع الحاكمين والممسكين بخيوط السلطة في بلادهم، فعلوا ذلك وأساءوا إلى أنفسهم قبل أن يسيئوا إلى أوطنهم، ويعرِّضوا مواطنيهم إلى دفع الثمن غالياً في الابتلاء بالخوف والجوع، ونقصٍ في الأموال والأنفس والثمرات، ولعل الأدهى والأمر أن من هؤلاء الخونة والعملاء والمارقين من يتشدق بهذه الخيانة جهراً وعلانية، مبرراً فعلته بالمنطقية لإسقاط نظام الحكم،، يقول زعيم النازية الألماني أدولف هِتْلَر: ” إن أحقر الأشخاص الذين قابلتهم في حياتي هم هؤلاء الذين ساعدوني على احتلال بلدانهم”.