المهندس عثمان أبو شعيرة .. رحل و ترك فراغاً لن يملأه أحد

0

همس الحروف

الباقر عبد القيوم علي

رهط من أصدقاء صبوته يتبارون في الحديث عنه بالق الحرف و جمال الكلمة و عظيم المعاني ، و هؤلاء الجمع الكريم لم يكن يجمعهم معه رابط دم أو رحم ، بل كانت تجمعهم جميعاً الروابط الإجتماعية الممتدة التي نشأت بالجوار أو بالزمالة ، و لقد كان مجرد التفكير في انواع هذه العلاقات يرسم الفرح و معاني الإنتماء الحقيقية عند معظم الناس الذين عاشوا في الزمن الجميل ، و يثير مثل هذا الحديث عن هذه الروابط لدى الكثيرين من الناس مشاعر الترقب و الحن و الحنين إلى الماضي ، إذ يمكننا عبره ان نستشعر الإلفة الأخوية الصادقة التي تأتي كقيمة مضافة عند ذكر القامة التي تمثلت عندنا في سيرة المرحوم الباشمهندس عثمان محمد أحمد أبو شعيرة والد كل من الباشمهندس أحمد و شقيقه الفاتح و أخريات يشكلن نجيمات في خدورهن ، حيث درس الهندسة في المعهد الفني بالخرطوم في قسم الهندسة المدنية ثم نال دراسات عليا في فن العمارة في كل من الولايات المتحدة الأمريكية و بريطانيا في زمان عز فيه التعليم حتى أصبح محاضراً بذات المعهد الفني الذي تخرج منه ، ثم إغترب الي المملكة العربية السعودية ، ثم عاد بعد ذلك الى السودان ليكمل مسيرة عطائه ، فكان من أميز الذين تسرجوا صهوة العمل الخاص بالتشييد و البناء و النقل البري حتى توج ذلك العمل بدخوله الى عالم النقل الجوى عبر شركة سارية للطيران ، لقد صدق هؤلاء الأصحاب في ما ذهبوا اليه ، و نجد ان مثل هذه المشاهد التي تحدثوا عنها تؤكد حميمية هذه الروابط ، حيث إستنطقوا منها المعاني في صور جميلة تؤكد قداسة هذه العلاقات التي كانت تتميز بقوة أواصرها بين الأصدقاء ، في وقت كانت تتشكل كعلاقات عظيمة من واقع الصداقات و الجيرة و الزمالة و الأخوة الصادقة في الله و لله و التي تعتبر أس الحياة ، و كانت تستمد متانتها من تعاليم الدين السمحاء ، فكانوا يتجاذبون أطراف حديثهم الثر و الغني بالمعاني و الإضاءات التي تملأ سيرة هذا الوالد العظيم و الأخ العزيز لكل من يعرفه .. أنه المرحوم المهندس عثمان أبو شعيرة ، الذي ظل حتى آخر يوم في حياته يفرد على رؤوس الجميع في كل الأماكن التي كانت تمثل له و لاسرته منزلاً ، من الكتياب شمالاً بولاية نهر النيل و مروراً باواسط السودان حتى وصولاً إلى المجلد في غرب كردفان ، فقد كان طيلة عمره يرسل نقاء الأخاء بمعانيه الجميلة التي تحمل في طياتها الكثير من القيم النبيلة التي ورد ذكرها كثيراً في أمهات كتب السيرة النبوية العطرة ، فقد أجمع كل من كانت له معرفة به أن هذا المرحوم كان يقدس الأخوة بصدق و وفاء متناهيين ، حيث ظل أخاً وفياً لهم و حفياً بهم ، طيب معشر ، تكسوه هيبة الأخلاق الأصيلة وحسن التربية التي نالها أباً عن جد و ورثها لأبنائه ، فقد أوفوه حقه في سماحة نفسه التي كانت لا تعرف طريقاً الى الخصومة لأنه كان صاحب قلب ناصع البياض لا يحمل في صدره غبينة على أحد ، و يحب الخير كحبه لأبنائه و يسارع إليه لهفة في الطاعات كسرعة تلك الحمر المستنفرة التي تفر من القسورة .

التاريخ يوثق دائماً للأمم و الشعوب سير عظمائها و قصص رجالها في مسيرة حياتهم و خصوصاً ما يمدون به الإنسانية من أعظم حالات العطاء ، والتفاني في خدمة المبادئ و القيم الإنسانية العظيمة التي تشع بجمال المفاهيم الإنسانية و التي كانت ترسخ لمثل هذه الروابط الإجتماعية في هذه الحياة العامرة بعطائه اللا محدود ، فنجد أن التاريخ قد تعثر متوقفاً عند نزول هذ الرجل القامة (عثمان أبو شعيرة ) عن صهوة جواد الحياة مودعاً هذه الفانية ليسجل في دفتر حضوره غياب أبدي لهذا الرجل الذي ترك فارغاً واسعاً ملأ أضابير سجلات التأريخ ، تاركاً خلفه مكاناً لن يستطع أن يملأه غيره ، وقد ترك سجلاً ناصعاً و مفعماً و حافلاً بسيرة عامرة ستكون من أعظم المداس الإنسانية ، وإرث أخلاقي ضخم لن ينضب معينه .

أنه حوض الموت الذي سيرد الجميع إليه و الذي تنتهي عنده كل النهايات ، فلابد من إنكسارنا له و الإيمان به ، و هو الحقيقةٌ القاسيةٌ التى لا تجد الإنسانية مفر منها ، و هي النهاية التى تواجه أهل الدنيا قاطبة بدون إستثناء ، فلا أحد من الناس يستطيع ردها أو تأخيرها ، فاليوم قد يتخطانا إلى غيرنا و غداً من المؤكد سيتخطى غيرنا إلينا ، فالموت حق حينما يصل بنا العمر إلى لحظات الفراق الأخيرة ، حيث تنتهي الدنيا معلنة بداية حياة البرزخ التي أخبرنا بها سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم

و هذا هو ظننا في الله {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا .. خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا ، صدق الله العظيم ، ونحن إذ نحسبه كذلك و الله حسيبه ، فإن المرحوم ظل شمعة متقدة إلى أن أجلسه المرض ، و ما زال متوهجاً بالعطاء حتى فارق الدنيا ، حيث أن لسان حال أبنائه يصف حالهم و أبيهم كما اتى ذلك على لسان الشاعر :

بجوار قبرك يا أبي كل القبور
تأست بالخير و الإحسان

أما المنازل يا أبي فتخولت
بفقدك قبراً عالي الجدران

هو ذا فؤادي قبر روحك يا أبي
و دع التراب يلف بالجثمان

فالجسم يبلى و الخلود لروح
من ربي بروحي بذرة الايمان

لقد سلم الجميع بحكم القضاء و القدر و ما زالت القلوب يعتصرها الألم و العيون تزرف الدموع السجية ، و لكن لا نقول إلا ما يرضي الله و رسوله (إنا لله وإنا إليه راجعون) ، سائلين له المولى عز وجل أن يتقبله في منازل الأنبياء والشهداء و الصدقين ، وأن يبدله الجنة بدون حساب أو سابق عقاب ، وأن يتقبل كل ما قدمه في سبيل إرضاء ذاته برفع درجته في عليين في صفوف النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين وأن ينزل غيثاً من السماء على قلوب أهله المكلومين و أن يطفىء بها حرقة صدور المحبين له ،و ان يجمعنا به في ملتقى رحمته يوم الدين يا رب العالمين .. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.