للعطر افتضاح |د. مزمل أبو القاسم _ الأمر ما اختلف‏

0

الحريـة نـيـوز :

* هو السودان بلد العجائب والغرائب، حيث يتقلب من يدعون تمثيل المهمشين في نعيم الفنادق الفخمة، ويلتهمون خبزها الناعم ولحومها الطرية بالمجان، في حين يأكل من يمثلونهم (النيم)، ولا يجدون طعاماً.. بالقيمة!

* هو السودان (وطني الفقران وغني) أو كما قال صلاح أحمد إبراهيم في قصيدته الخالدة (شين ودِشن)، فيه تهدر وزارات القطاع الاقتصادي ملايين الدولارات لسداد غرامات البواخر الراسية قبالة الميناء في انتظار التفريغ، لتكبّد كل واحدةٍ منها الغبش التعابى عشرين ألف دولار كلما أشرقت شمس الصباح على بلد تفشل حكومته في توفير الدولار لاستيراد أدوية السرطان ومحاليل غسيل الكلى وبقية الأدوية المنقذة للحياة.

* في بلادي المنكوبة بالفساد وسوء الإدارة وخراب الذمم تتم مطالبة وزارة المالية بسداد ما يقارب التريليون جنيه لشراء (70) سيارة جديدة لمجلس السيادة، ثم تحترق (18) سيارة فخمة في جراج مُهمل يتبع لمجلس يمتطي أعضاؤه الفواره من طراز اللكزس والإنفنيتي والمارسيدس، بينما يركب أهلنا الدفارات والقلابات واللواري وكل ما يدُب على اثنين أو يسري على أربعة في قلب عاصمةٍ تفتقر إلى المواصلات العامة.

* في بلاد الغرائب والعجائب والامل الخائب تندلع ثورةٌ عاتية لتكافح الفساد والظلم والمحسوبية بالهتاف الخالد (سلمية سلمية ضد الحرامية)، ويقدم شباب في عمر الزهور حياتهم ودماءهم رخيصةً ثمناً للتغيير، فيتم باستبدال رئيس واحد بأحد عشر رئيساً.. ولدينا المزيد، فمجلس الرئاسة، أو السيادة يقبل التضخم، ويحتمل التمدد، كي يستقبل المزيد من الرؤساء الجدد، وينال كل واحدٍ منهم مليارات الجنيهات لتغطية كلفة نثرياته وسياراته وضيافته وموظفيه، في دولةٍ يموت أطفالها بلدغات العقارب لانعدام الأمصال، ويقضي مواطنوها نحبهم أمام المشافي المغلقة، ويموتون بانعدام الأدوية، ويموتون بالحُميات والأوبئة، ويموتون لأتفه الأسباب لأن حكومتهم لا تأبه لهم.

* بلاد منكودة، يقوم أهلها ثلثي الليل بحثاً عن الخبز المعدوم، وتتراص صفوف سياراتها بالكيلومترات أمام محطات الخدمة، سعياً لاقتناء جالون بنزينٍ تضاعف سعره حتى فاق (نص الألف)، وشحَّ بعد غلائه وغاب واحتجب.

* في بلادي المبتلاة بالضمائر الخربة، والقلوب الميتة، والنفوس الخالية من النخوة يتم نشر عطاءات لصيانة كافتيريا أو تشييد سلمٍ صغيرٍ في إحدى مؤسسات الدولة، ثم تُستورد السلع الاستراتيجية بمئات الملايين من الدولارات بلا عطاءات، أو بعروض أسعارٍ صورية يمتد أوانها يومين أو ثلاثة أيام عمل، وتخصص عوائدها الضخمة لمحاسيب وطفيليين لا يشبعون من (لغف) أموال المسحوقين.

* في بلادنا الموجوعة يتم رفع الدعم عن كل شيء، وتخلي الدولة مسئوليتها عن الفقراء والمسحوقين، وتتركهم نهباً للجوع والغلاء والتضخم، ثم تُصان منازل كبار المسئولين بالمليارات، وتدفع فواتيرها من دون عطاءات.

* في بلادي التي ثار أهلها على الظلم وخرجوا إلى الشوارع هاتفين (حرية سلام وعدالة) تُغتال العدالة ألف مرة على عتبة التمكين الجديد، وفي بلادي الموجوعة المكلومة الحزينة أضرب نادي أعضاء النيابة عن العمل بعد أن اتهمت قيادته النائب العام بالفساد والتساهل مع لصوص العهد البائد، وفيها يتم طرد الآلاف من وظائفهم لاستبدال تمكينٍ بتمكين.

* حتى القضاء لم يسلم من غارات الإقصائيين الجدد، فتم شطب مائة وخمسين من خيرة القضاة بسيف التفكيك المزعوم، وأنابت لجنة سياسية عن المحاكم في إدانة الناس ومعاقبتهم قبل أن يخضعوا إلى محاكماتٍ عادلة، بازدراء معلن للقاعدة القانونية الشهيرة (المتهم بريء حتى تثبت إدانته).

* تعهد رئيس الوزراء أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بأن لا يتم حبس أي صحافي في السودان الجديد، ثم حاكى عرقوب في خلف الوعد، لتحاصر الدوشكات والتاتشرات بعض الصحف والفضائيات، وتشرد العاملين فيها، قبل أن تتم الناقصة بحبس صحافيين بتهمة (تقويض النظام الدستوري)! * ما أشبه الليلة بالبارحة.

* قولوا لي بربكم ما الذي تغير في سودان ما بعد الثورة عقب مرور أكثر من عام ونصف العام على نجاح الثورة؟

* ماذا أنجزنا بخلاف استبدال فاشلين بمن يفوقونهم في الفشل وضعف الإحساس بمعاناة الناس؟

* غيَّرنا الحُكام ولم نفلح في تغيير العقلية الحاكمة.. فالحال من بعضه، واللاحقون مفتونون في ما يبدو بالسابقين، إذ أنهم ينهلون جميعهم من المورد نفسه، ويحكمون بذات الكتلوج الذي يدعوهم إلى قمع كل من تسول له نفسه انتقاد الممسكين بزمام السلطة.

* أسفي ويا للأسف.. فالأمر ما اختلف.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.